د. أحمد يعقوب المجدوبة
لا شك بأن التحديات التي تحول دون إطلاق «مشروع النهضة الوطني الشامل» الذي نصّ عليه كتاب التكليف السامي لحكومة الدكتور عمر الرزاز كثيرة. منها السياسي، ومنها الاجتماعي، ومنها التربوي، ومنها التقني والعلمي، ومنها المالي والاقتصادي.
ومنها ما يتصل باستثمار علاقاتنا الإقليمية والدولية على نحو أكثر فاعلية.
بيد أن الأولوية الأولى، في تقديرنا، هي للعامل الاقتصادي – أو يجب أن تكون كذلك.
نعي أننا يمكن – لا بل يجب – أن نعمل بالتوازي لا بالتتابع، أي أن نعمل على كافة التحديات معاً، وعدم تأجيل أو إهمال أي منها.
لكننا نعي أيضاً أن نِسبَ صبّ الجهد أوالتركيز تختلف باختلاف موقع التحديات على سلم الأولويات.
والتحدي الاقتصادي يجب أن يكون في أعلى سلم أولوياتنا، فهو الأهم والأكثر إلحاحاً في الوقت الحاضر.
من ينظر إلى واقع الناس وواقع مؤسسات الدولة، وواقع الدولة عموماً، يجد أن الهم الأول هو الهم الاقتصادي.
بخصوص الناس فإن تآكلت دخولهم – نتيجة غلاء الأسعار وزيادة الضرائب والفواتير وتعاظم المصاريف على عدة جبهات بالمقارنة مع ثبات الرواتب لسنوات طويلة – هو الهم الأول.
وفيما يخص مؤسسات الدولة، فقليلة لا بل نادرة منها التي لا تشكو من شح التمويل اللازم لا لتنفيذ مشاريع الإصلاح والتطوير الطموحة فحسب، بل لتسيير أعمالها اليومية. وهذا ينسحب على الوزارات المختلفة والمؤسسات العامة والهيئات والمدارس والجامعات وغيرها.
أما الدولة فحدّث ولا حرج عن ارتفاع المديونية والعجز وتقلّص المساعدات الخارجية وتراجع نسب النمو.
وهنالك بالطبع المشاكل الجوهرية المُرحّلة من حكومة لأخرى، والتي تتمثل في زيادة نسب البطالة والفقر، وتدني مستوى الخدمات وغياب المشاريع الكبرى في قطاعات الطاقة والنقل، واستفحال العراقيل أمام المشاريع الاستثمارية.
المتابع لقصص العديد من خريجينا في البحث عن فرص عمل في السوق المحلية يجد أنها صعبة المنال للعديد منهم وأن من يحصل منهم على فرص تكون رواتبها ومزاياها في الغالب الأعم أقل بكثير مما يستحقون بناءً على المؤهلات التي يحملونها والمعارات التي يتقنونها.
وهذا معاكس للرواية التي يُروّج لها البعض والمتمثلة في أن فرص العمل المجزية كثيرة لكن مؤهلات ومهارات شبابنا وشاباتنا لا ترقى لمتطلباتها بسبب «الفجوة» بين مخرجات الجامعات وحاجات السوق.
يبدو أن هذه الرواية غير دقيقة على الإطلاق فهنالك خريجون من جامعاتنا ومن أرقى الجامعات العالمية ممن لا يجدون الفرص المناسبة فيضطرون للبحث عن فرص أفضل في دول الجوار وفي تلك الأبعد منها.
وهنالك هموم القطاع الخاص، التي نسمع ونقرأ عنها باستمرار، والمتمثلة في زيادة الضريبة عليه وفي عرقلة معاملاته واضطراره لنقل عملياته لدول أخرى، قريبة وبعيدة.
وهذا أمر محيّر، فإذا كنّا نتفق على أن القطاع العام لم يعد قادراُ على استيعاب أبنائنا وبناتنا الشباب، وأن المجال أمامهم هو في القطاع الخاص، فلم التضييق على القطاع الخاص إذاُ؟!
يبدو أننا – ونقول ذلك بمرارة – لا نتقن فنّ لعبة الاقتصاد على أهميتها، وكأننا مثل «دجاجة حفرت على رأسها نثرت».
يذكر أبناء جيلي، أننا لعقود طويلة قدّمنا السياسة على الاقتصاد، بسبب مواقفنا الوطنية من عدة قضايا عربية واستماتتنا في الدفاع عنها بأغلى ما نملك، فأهملنا الاقتصاد فأصابنا ما أصابنا، من تأخر في التنمية وتراجع في التطوير والنهضة على مستويات عدة. وعندما بدأنا نركز على الاقتصاد، ركزّنا لعقد من الزمن، ثم أخذت أوراقنا بالاختلاط مجدداً لعوامل خارجية تتصل بالوضع المأساوي لدول الجوار وعوامل داخلية تتصل بمطالب لم نحسن ترتيب أولوياتها، فتراجع الاهتمام بالاقتصاد مرّة أخرى.
وبعد، فمن يتابع قصص أكبر الدول وأعظمها يجد أنها تُعلي من شأن الاقتصاد، وتجعل كل شيء، بما في ذلك السياسة، خادماً له، فالاقتصاد هو المحرك الأول في مصالح الدولة والمتطلب الأهم لتحقيق مشاريع نهضتها. وهذا ما يتوجب علينا فعله، ونتوقع من الحكومة أن تنصاع لكتاب التكليف السامي وتقدم مشروع النهضة المشار إليه الذي يكون الاقتصاد أحد أهم روافعه. ونتوقع من الحكومة إعطاء الاقتصاد الأولوية التي يستحق وتقديم الأفكار الخلاقة التي تُحدث النقلة المرجوة اقتصادياً واستثمارياً والتي ينجم عنها النمو والانتعاش وتوافر فرص العمل الملائمة لمؤهلات خريجينا المميزين – بعيداً عن الضرائب ورفع الأسعار وإزالة الدعم والهرولة وراء قضايا شعبوية وهمية لا تسمن ولا تغني من جوع.